فضفضة.. مــرآة الصحـافة !

كم من شخص ضاع عمره وهو يحيا حياة غيره، ولمّا انتبه للشعر الأبيض في رأسه، ونظر للمرآة، وجد جسدا هزيلا وملامح شاحبة، لمح شخص آخر رفيق له في عمر متقدّم؟ .
“هي هكذا الأمور تسير؛ لمن تجاوز نفسه لأجل غيره”.. يقول صحفي لزميل له، لكن السؤال الصّادم أن تردّد صحفية : من يعيش بدلا عنّا هذا الألم؟ ومن يقدر على حمل هذا الوجع؟ يوم إكتشاف تسرب السنوات من بين أيدينا دون أن نعثر لها عن أثر.
أحاديث جانبية، أو فضفضة على هامش يوميات المهنة المُتعِبة، تنمّ عن حقيقة صارخة، لما أنتجته سنوات الممارسة المهنية، خصوصا في الفترة الأمنية العصيبة التي مرت بها الجزائر، وإفرازاتها الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية المؤلمة على قطاع واسع من المواطنين.
كثيرا ما حمل الصحفي على عاتقه الهمّ اليومي في حيّه وقريته ومدينته وبلده، لينتهي به المطاف إلى تعداد عدد الشّعرات السوداء في رأسه، إن لم يصبح أصلعا، على حد قول الكثيرين.
تمرّ الأيام، والأسابيع والأشهر والأعوام، يشبه ذلك الصحفي، الباحث عن تفاصيل الحقيقة، النّاقل للكثير من الأوجاع ، والحالم ببعض الأفراح، تلك الآلة التي تنتظر المادة الخام لتشكِّلها على مقاس المؤسسة التي يشتغِل فيها، إذ ينسى حتّى أنه مواطن مثله مثل جاره يحتاج إلى سكن، فالصحفيون أيضا مواطنون عانوا من أزمة السكن لسنوات طويلة.
من المفارقات العجيبة، أن الصحفي الذي ينقل أخبار معاناة سكان حي من أحياء الجزائر، هو نفسه الشخص الذي يأوي في الليل إلى حمّام المدينة لينام، أو إلى غرفة في أرخص فندق بحي باب الوادي العتيق، يلملم فيها ما بقي له من قوة وأحلام.
من المفارقات العجيبة أن الصحفي الذي ينقل أخبار معاناة سكان حي من أحياء الجزائر العاصمة، بسبب توزيع السكن، هو نفسه الشخص الذي يأوي في الليل إلى حمّام المدينة لينام، أو إلى غرفة في أرخص فندق بحي باب الوادي العتيق، أو غرفة في أحد الأحياء الجامعية، يلملم فيها ما بقي له من قوة وأحلام.
على سبيل المثال وليس الحصر، يكشف أحد أقلام مهنة المتاعب، أنه أصيب بداء “الوهم”، إذ يتوهم أن دوره هو تصوير مشاكل منطقته، حتى بات يردّد مقولة مشهورة:” لا يمكنني أن أرى النور في يوميات بلدتي، يجب أن يكون هناك مشكلة لأكتب عنها، وإلا فمصير مراسلتي هو سلّة المهملات”.
تغيّرت معطيات مملكة الصحافة في الجزائر، وزاد منسوب النجومية، وارتفعت معه عملية حرق مراحل التعلّم بين جدرانها، بسبب مواقع التّواصل الاجتماعي.
مع مرور السنوات، تغيّرت معطيات مملكة الصحافة في الجزائر، وزاد منسوب النجومية، وارتفعت معه عملية حرق مراحل التعلّم بين جدرانها، بسبب مواقع التّواصل الاجتماعي، التي فتحت باب الحقيقة والبهتان على مصراعيهما، دون حدود، وغابت فيها أخلاقيات المهنة، إذ ينسى الصحفي أن يؤدي دوره، فتارة يحمل مشعل خلفياته وقناعاته، ويدافع عن الحقيقة وردّ المظالم، ويعلي ذلك الصوت الإنساني الداخلي، وهي قبّعة لا شك أن يرتديها عندما تكون الفرصة سانحة بقوة الطرح والمعلومات والحقائق التي بين يديه، دون تزييف أو تشويه أو تخوين، وأحيانا ينزع القبّعة التي شكّلتها الأحداث المتحرّكة، في رحاب معطيات السياسة التي منعت الكثير من التعبير ومنحت القليل من الحرية، وصار اللعب مكشوفا على وتر واحد، وبخيارين: من هو ضدي فهو ليس معي، إما الاستمرار أو الاستسلام.
يتواصل حديث النفس أمام المرآة والأصابع تتفقّد لون الشعرات في الرأس.. سؤال تردده إحدى الصحفيات: هل من أحد يعيش عنّا هذا الألم، يُقاسِمنا إيّاه، كما اعتدنا أن نفعل دائما ؟! وكم واحدة منّا ضاع عمرها و هي تحيا حياة غيرها، و لمّا انتبهت للشيب الأبيض في شعرها، لم تجد سوى ملامحها الشاحبة في المرآة رفيقا !
أحلى ما في الصحافة، أنّها لا تفتح أبوابها للمتكاسلين المتخاذلين، لا تمنح لهم مساحة للتوقف، بل هي الرفيقة الوفية إلى حدّ القبر.
تتوالى الأفكار وتنساب وتتضارب ثم تتفق: “الزمن يتغيّر، فلكل شيء نهاية ولكل مهنة سنّ محددّ للتقاعد، فأحلى ما في الصحافة، أنّها لا تفتح أبوابها للمتكاسلين المتخاذلين، تضع لهم فضاء للراحة، ولكن لا تمنح لهم مساحة للتوقف، بل هي الرفيقة الوفية إلى حدّ القبر”.
- كتبت: الاعلامية والباحثة فتيحة زماموش